إن الهدف والمراد من السياسة الجهوية عامة، هو الحفاظ على الوحدة الترابية للدولة من جهة، وتحقيق التنمية الاقتصادية المتوازنة من جهة أخرى، غير أن كثيرا من الدول خاصة النامية منها، تعاملت معها بتوجس وحذر شديدين حيث تم اعتبارها مصدر تهديد وخطر يمكن أن يؤدي إلى انفصال وتجزئة البلاد، حيث أن هذه الخلفية أدت إلى تعزيز وزيادة تسيير وتدبير الشؤون المحلية بمركزية مفرطة، الأمر الذي جعل أغلب المناطق فيها تسعى إلى إثبات ذاتها عبر الرغبة في تحقيق أكبر قدر ممكن من الاستقلال تجاه المركز، مما يجعل العلاقة بين هذا الأخير ومحيطه تتسم بنوع من التوتر والاضطرابات والتي تشكل تهديدا مباشرا على وحدة الدولة واستقرار نظامها العام.
إن أغلب الدول الأوروبية وعت كل هذا بشكل جيِّد، حيث تبنَّت نظاما جهويا متطورا في إطار الدولة الموحدة، خاصة منها الدولة الإيطالية، وذلك حفاظا على وحدتها الترابية من أي خطر لانفصال وانقسام البلاد، خصوصا وأن أقاليمها وجهاتها كانت وما تزال تعرف فوارق اقتصادية واجتماعية حادة.
إن المقتضيات الدستورية المتعلقة بالجهوية أو الحكم الذاتي الإيطالي لم تدخل حيز التطبيق إلا بعد انتخاب المجالس الجهوية في سنة 1970م، فالتنظيم الجهوي بهذه الدولة ليس بحدث معاصر بل هو أمر كان محل دراسة عميقة وأخذ ورد بين معارضين ومؤيدين منذ سنة 1960م[1]، إلا أن انتخاب المجالس الجهوية أحدث تحولا جوهريا في تنظيم الدولة الإداري من نظام مركزي إلى تنظيم جهوي لامركزي حقيقي، غير أن المسار الجهوي سيعرف الكثير من التعثرات لاسيما نهاية الستينات، مما فرض تدخل المشرع حيث صدر القانون رقم 382 سنة 1957م ومراسيمه التطبيقية سنة 1977م، والتي منحت للجهة مكانا أوليا بين المؤسسات المكونة للدولة الإيطالية[2].
ومن خلال تصفح الدستور الإيطالي لسنة 1948م نجده قد أقر للجهة استقلالا ذاتيا حيث منحها الاستقلال على المستوى المالي وكذلك الإداري وأعطاها سلطة التدخل واتخاذ القرار في ميادين خاصة وفق ما حددته مقتضيات الدستور وقوانين الجمهورية، وقد تم حصر عدد الجهات في عشرين جهة لكنها لا تتمتع بنظام موحد، و إنما هناك فئتين، حيث نجد أن المشرع الدستوري الإيطالي بهذا التمييز أخذ بعين الاعتبار زيادة على الظروف الطبيعية والبيئية للبلاد عامل الزمن من حيث الأسبقية في التأسيس، حيث كانت الأولوية للخمس جهات الأوائل في الوجود، كما أنها منحت هذا النوع من الحكم كنتيجة لمواجهة المشاكل التي بدأت تطفو على الساحة السياسية والاقتصادية للبلاد مما يفسر خضوعها لنظام خاص[3].
ويعتبر دولونفرسان أن الأحداث التي حصلت في صقلية هي السبب الرئيسي والمباشر في إحداث نظام المناطق في إيطاليا[4]، إلا أن بلازوليPalazzoliيعزو ظهور هذا النظام إلى أسباب أكثر عمقا وأشد تعقيدا ويردها إلى نوعين مختلفين من الأسباب:
- أسباب طارئة ومتغيرة: ولها علاقة بكل ما حصل بعد الحرب العالمية الثانية والتي أملت اتخاذ خطوات جذرية لإعادة تنظيم الدولة، وأهم هذه الأحداث مطالب صقلية بالانفصال وتهديد وحدة الدولة الإيطالية، وردة الفعل ضد النظام الفاشستي المركزي وانتصار الديمقراطية المسيحية.
- أسباب ثابتة وعميقة الجذور: وبعض هذه الأسباب تاريخي و جغرافي، منها ما يعود إلى أن إيطاليا قد نشأت أصلا على أساس مدن منفصلة وقد تأصل هذا الانفصال بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية، والجغرافي منها يرجع إلى طبيعة إيطاليا التي تمتد من جبال الألب إلى الشاطئ الإفريقي مع ما يترتب على ذلك من متغيرات وتناقضات اجتماعية وإثنية واختلافات في المناخ والعادات واللغة والأحوال المعيشية[5]، ويضيفPalazzoli إلى هذه الأسباب سببا رئيسيا غير ملموس ويتجلى في الفكر السياسي الحديث في إيطاليا، والذي يعتبر أن الحكم الذاتي هو وسيلة لتحقيق الديمقراطية والحرية، ومنشأ هذا التفكير يعود إلى التاريخ الإيطالي القديم الذي يتميز بتقليد حي يقوم على الاستقلال الذاتي في الحكم بعكس التقاليد الفرنسية في الحكم والتي تقوم على الوحدة والمركزية[6]، والتي زرعها الفرنسيون في إيطاليا بعد غزوهم لها وأثمرت عن الوحدة الايطالية .
وقد لعبت هذه الأسباب وغيرها دورا أساسيا في الأخذ بنوعين من المناطق أو الجهات:جهات ذات نظام خاص وجهات ذات نظام عادي، حيث عمل الدستور الإيطالي على إنشاء هذين النوعين من المناطق، حيث أن الجهات ذات النظام الخاص نصت عليها المادة 116 من الدستور الإيطالي وهي خمسة:
-Sicile;
-Sardaigne;
-Adige Haut;
-Vallée d’Aoste;
-Friol Vénétie julienne.
وتتمتع هذه الجهات الخمس بحكم الخصائص التي تتميز بها بصلاحيات واستقلال ذاتي أوسع من المناطق ذات النظام العادي، وقد نصت المادة 116 من الدستور الإيطالي على أن الأنظمة الأساسية لهذه الجهات وصلاحياتها والشروط الخاصة باستقلالها تحدد وفقا لأنظمة خاصة تصدر بموجب قوانين دستورية، فصقلية وسردينيا يحكمهما نظام يقوم في أساسه على التخلف الاقتصادي والاجتماعي الموجود في المنطقتين، بينما المناطق الثلاث الأخرى تحكمها أنظمة كان في أساس نشأتها تواجد قوي للأقليات الناطقة باللغة الألمانية، فوظيفة الاستقلال إذن ليست واحدة في هذه المناطق، فمنطقة صقلية هي من بين هذه المناطق الأكثر استقلالا و تميزا لدرجة أنها تقترب من الوضع القانوني للدولة العضو في النظام الفيدرالي، بينما لا تتعدى صلاحيات المناطق الباقية صلاحيات المناطق ذات النظام العادي أو صلاحيات المقاطعات القديمة[7]، أما المناطق الأخرى ذات النظام العادي فتستقل مجالسها بوضع أنظمتها الخاصة على أن يصادق عليها فيما بعد بقانون عادي، إلا أن هذه المناطق لم تر النور إطلاقا وذلك لأن القوانين التطبيقية للدستور والتي يقتضي إصدارها لوضعها موضع التنفيذ تأخر صدورها، وبالتالي فإن هذه المناطق المنصوص عليها دستوريا لم تزل عبارة عن مقاطعات تتبع نظام اللامركزية الإدارية كما هي المحافظاتDépartements في فرنسا، في حين أن الجهات الخمس ذات النظام الخاص قد صدرت القوانين الدستورية المنظمة لها بتواريخ مختلفة :
– صقلية في سنة 1946م؛
– سردينيا و أديج العليا ووادي الأوست في سنة 1948م؛
– فريول فينيسي جوليان في سنة 1964م[8].
وتجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من هذا التباين والاختلاف في أنظمة هذه المناطق، هناك مبدأ متفق عليه يقضي بوجوب مراعاة هذه الأنظمة للأحكام المنصوص عليها في الدستور ولاسيما المنصوص عليها في المواد من 114 إلى 133 والتي تمثل قدرا مشتركا من القواعد العامة المتشابهة التي يقتضي وجودها في كل نظام أساسي من أنظمة هذه المناطق .[9]
فالجهات ذات النظام الخاص وكما سبق القول عددها خمسة، قد ثم التنصيص عليها في المادة 116 من الدستور، حيث تتمتع هذه الجهات بأنظمة (قوانين أساسية) خاصة يصادق عليها البرلمان الإيطالي بغرفتيه بالأغلبية المطلقة كما هو منصوص عليه في الدستور، إلا أنه بموجب القانون 1999-1 ستصبح المصادقة عليها من طرف الجهات وتعديلها يستوجب إجراءات ومساطر موازية لتلك المستعملة لتعديل الدستور بشكل يجعل الأنظمة الأساسية عبارة عن دساتير للجهة[10] ، وتنبع أهميتها في كونها تضمن لتلك الجهات استقلالا ذاتيا موسعا لاسيما الاستقلال المالي[11]، وقد أحدث هذا النوع من الجهات بسرعة فائقة لتفادي الاصطدامات بين الشمال والجنوب الإيطاليين بسبب بروز النزعات الانفصالية .[12]
فتأسيس هذه الجهات من طرف الجمعية التأسيسية في سنة 1947م ومنحها نظام خاص، إنما يرجع لقوة مطالب الحكم الذاتي في سردينيا والمطالب الانفصالية في صقلية ولأجل حماية الأقلية الفرنكوفونية بجهة Vallée d’Aoste وحماية الساكنة ذات الأصول الجرمانية بجهةTrentino-Alto Adigioوفق ما تم تحديده في اتفاق باريس[13]، فهذا ما أكده الأستاذان أدامزوباريلي من أن منح الحكم الذاتي للأقاليم المميَّزة في إيطاليا يرجع إلى أسباب أهمها: خوف الجمعية التأسيسية من أن تفقد إيطاليا بعض أقاليمها، ويريان أنه كان لهذا الخوف ما يبرره: ” فقد كانت إيطاليا تحارب في معارك دبلوماسية من أجل أن تحتفظ بمديرية أوستاAostaحتى لا تُضَّم لفرنسا، ومن أن تحتفظ بمديرية بولزانوbolzanoحتى لا تضم إلى النمسا، ومن أجل أن ترسم أفضل حد ممكن لها على الطرف اليوغسلافي”[14].
هذا فضلا عن بروز الاتجاهات الانفصالية في جزيرة صقلية la Sicile .
أما بالنسبة للجهات ذات النظام العادي[15]، فيتم إعداد (قوانينها الأساسية) أنظمتها العادية وتعديلها من طرف المجلس الجهوي بالأغلبية المطلقة إضافة إلى أنه يتوجب قبولها في استفتاء شعبي من ساكنة الجهة، بعد ذلك يصادق عليها بقانون عادي، و تجدر الإشارة إلى أنه بالرغم من التباين والاختلاف الموجودين في أنظمة الجهات ذات النظام العادي، فهناك مبدأ متفق عليه يقضي بوجوب مراعاة هذه الأنظمة للأحكام الأساسية الواردة في الدستور ولاسيما تلك المنصوص عليها في المواد من 114 إلى 133 والتي تمثل قدرا مشتركا من القواعد المتشابهة التي يتطلبها كل نظام أساسي من أنظمة هذه المناطق[16].
ومع ذلكفكلهذالايعنيأنإيطاليااستطاعتالقضاءالنهائيواستئصالالفوارقالجهويةالتيلازالتقائمةداخلهابينجهاتالشمالالغنيةالمصنعةوجهاتالجنوبالفقيرة،لكنالملاحظهوأنمجملهذهالتفاوتاتقدخفَّتحدتهابشكلملموس،كماأنهاتتبعالطريقالصحيحنحوالتقلصأكثرفأكثر.
لذافمايمكنقولهفيالأخيرهوأنالجهويةفيإيطالياوخاصةفيمايتعلقبنظامهاالمطبقعلىمستوىالحكامة الجهوية وحسن التدبير المالي وكذلك على مستوى توزيعالاختصاصاتبينالدولةوالجهاتتعتبرمنأحسنالنماذجالتييمكنالاحتذاءبها.
[1] – Voir : pouvoirs, Régions, N°19, revue française d’études constitutionnelles et politiques, 1981, presse universitaire de France, p 68.
[2]-المستف صالح، التطور الإداري في أفق الجهوية بالمغرب، من المركزية إلى اللامركزية، مطبعة دار النشر، الدار البيضاء، طبعة 1989م، ص 28.
[3]-الأزهري إدريس، الجهوية والتنمية الإدارية بالمغرب، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون العام، جامعة محمد الخامس، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكدال-الرباط، 1999 -2000م، ص ص 33-34.
[4]– D. LANVERSIN, le régionalisme Italien, IH, paris, 1955, p 51.
[5]-PALAZZOLI Claude, les régions italiennesles Régions Italiennes, Contribution à l’Etude de la Décentralisation politique, paris, 1991, op.cit, p 23.
[6]-للاطلاع على موضوع الجهوية وتقاليد الحكم في فرنسا، يمكن مراجعة:
– CHEVALIER (j), l’Administration et le Développement Local en France, revue française d’affaires politiques, N°34, 1985.
– COTTON Michel, la Décentralisation au plus de conformisme, revue française d’affaires politiques, N°13, 1986.
[7]– القستلي عبد الوهاب، الحكم الذاتي في الممارسة الدولية، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة، وحدة البحث والتكوين: المغرب في النظام الدولي، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، أكدال- الرباط، 2007-2008م. ص 81.
[8]– القستلي عبد الوهاب، المرجع السابق.
[9]– قباني خالد، اللامركزية ومسألة تطبيقها في لبنان، تقديم دولة الرئيس الدكتور سليم الحص، منشورات البحر المتوسط، عويدات، بيروت – باريس، الطبعة الأولى،1981م. ص ص169-170.
– الأزهري إدريس، الجهوية و التنمية الإدارية بالمغرب…، مرجع سابق، ص 39.[10]
[11]– مثلا جهة Trentino –Alto Adige بساكنة 900.000 نسمة، لها ميزانيتها تعادل ميزانية جهة ٍVento والتي يبلغ عدد سكانها أربع ملايين ونصف مليون نسمة، إضافة إلى ما يجتمع لديها من صلاحيات تشريعية وإدارية مهمة في ميادين التربية والصحة، وهو ما يفسر مطالبة الكثير من البلديات والجماعات المتاخمة لتلك الجهات الغنية بالانضمام إليها مع مراعاة المقتضيات الدستورية.
[12]— المستف صالح، التطور الإداري …، مرجع سابق…، ص29.
[13]– يسمى أيضا اتفاق دي كاسبري-كروبر de gasperi-gruber والذي ثم في 5 شتنبر1946 م بباريس وبموجبه استمرتtriol Del surوTrento كأجزاء من التراب الإيطالي وكذلك تمكنت من ضمان منحها الحكم الذاتي.
[14]-آدامز وباريلي، نظام الحكم في إيطاليا، ترجمة أحمد نجيب هاشم، مطبعة مصر، القاهرة، 1964، ص193.
15-Veneto- Lazio Marche – Umbri –Abruzzo–Basilicata–Calabria–Campania – Molise-Apulia- Liguria lombardia-pémonte-emilia-romagna.
[16]– بن الساهل إدريس، تطور وآفاق الجهة بالمغرب، دبلوم الدراسات العليا في القانون العام، 1996م، كلية الحقوق، الرباط-أكدال، ص 195.